فصل: بيعة الحسن وتسليمه الأمر لمعاوية.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.بيعة الحسن وتسليمه الأمر لمعاوية.

ولما قتل علي رضي الله عنه اجتمع أصحابه فبايعوا ابنه الحسن وأول من بايعه قيس ابن سعد وقال: ابسط يدك على كتاب الله وسنة رسوله وقتال الملحدين فقال الحسن على كتاب الله وسنة رسوله ويأتيان على كل شرط ثم بايعه الناس فكان يشترط عليهم أنكم سامعون مطيعون تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت فارتابوا وقالوا: ما هذا لكم بصاحب وما يريد القتال.
وبلغ الخبر بمقتل علي إلى معاوية فبويع بالخلافة ودعي بأمير المؤمنين وقد كان بويع بها بعد اجتماع الحكمين ولأربعين ليلة بعد مقتل علي مات الأشعث بن قيس الكندي من أصحابه ثم مات من أصحابه معاوية شرحبيل بن السمط الكندي وكان علي قبل قتله قد تجهز بالمسلمين إلى الشام وبايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت فلما بويع الحسن زحف معاوية في أهل الشام إلى الكوفة فسار الحسن في ذلك الجيش للقائه وعلى مقدمته قيس بن سعد في اثني عشر ألفا وقيل بل كان عبد الله بن عباس على المقدمة وقيس في طلائعه فلما نزل الحسن في المدائن شاع في العسكر أن قيس بن سعد قتل واهتاج الناس وماج بعضهم في بعض وجاؤا إلى سرادق الحسن ونهبوا ما حوله حتى نزعوه بساطه الذي كان عليه واستلبوه رداءه وطعنه بعضهم في فخذه وقامت ربيعة وهمدان دونه واحتملوه على سرير إلى المدائن ودخل إلى القصر وكاد أمره أن ينحل فكتب إلى معاوية يذكر له النزول عن الأمر على أن يعطيه ما في بيت المال بالكوفة ومبلغه خمسة آلاف ألف ويعطيه خراج دار ابجرد من فارس وألا يشتم عليا وهو يسمع وأخبر بذلك أخوه الحسين وعبد الله بن جعفر وعذلاه فلم يرجع إليهما وبلغت صحيفته إلى معاوية فأمسكها وكان قد بعث عبد الله بن عامر وعبد الله بن سمرة إلى الحسن ومعهما صحيفة بيضاء ختم في أسفلها وكتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة ما شئت فهو لك فاشترط فيها أضعاف ما كان في الصحيفة فلما سلم له وطالبه في الشروط أعطاه ما في الصحيفة الأولى وقال هو الذي طلبت ثم نزعه أهل البصرة خراج دار ابجرد وقالوا: هو فيئنا لا نعطيه وخطب الحسن أهل العراق وقال: سخى نفسي عنكم ثلاث: قتل أبي وطعني وانتهاب بيتي ثم قال ألا وقد أصبحتم بين قبيلين قبيل بصفين يبكون له وقبيل بالنهروان يطلبون بثأره وأما الباقي فخاذل وأما الباكي فثائر وأن معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة فإن أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه إلى الله بظبا السيوف وإن أردتم الحياة قبلنا وأخذنا لكم الرضى فناداه الناس من كل جانب البقية البقية فأمضى الصلح ثم بايع لمعاوية لستة أشهر من بيعته.
ودخل معاوية الكوفة وبايعه الناس وكتب الحسن إلى قيس بن سعد يأمره بطاعة معاوية فقام قيس في أصحابه فقال نحن بين القتال مع غير إمام أو طاعة إمام ضلالة فقال له الناس: طاعة الإمام أولى وانصرفوا إلى معاوية فبايعوه وامتنع قيس وانصرف فلما دخل معاوية الكوفة أشار عليه عمرو بن العاص أن يقيم الحسن للناس خطيبا ليبدو للناس عيه فلما قدم حمد الله وقال: أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا وإن لهذا الأمر مدة والدنيا دول الله عز وجل يقول لنبيه: وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين فقال له معاوية إجلس وعرف أنه خدع في رأيه ثم ارتحل الحسن في أهل بيته وحشمهم إلى المدينة وخرج أهل الكوفة لوداعه باكين فلم يزل مقيما بالمدينة إلى أن هلك سنة تسع وأربعين وقال أبو الفرج الأصبهاني سنة إحدى وخمسين وعلى فراشه بالمدينة وما ينقل من أن معاوية دس إليهم السم مع زوجه جعدة بنت الأشعث فهو من أحاديث الشيعة وحاشا لمعاوية من ذلك.
وأقام قيس بن سعد على امتناعه من البيعة وكان معاوية قد بعث عبد الله بن عامر في جيش إلى عبيد الله بن عباس لما كتب إليه في الأمان بنفسه فلقيه ليلا وأمنه وسار معه إلى معاوية فقام بأمر العسكر بعده قيس بن سعد وتعاقدوا على قتال معاوية حتى يشترط لشيعة علي على دمائهم وأموالهم وما كانوا أصابوا في الفتنة وبلغ الخبر إلى معاوية وأشار عليه عمرو في قتاله وقال معاوية: يقتل في ذلك أمثالهم من أهل الشام ولا خير فيه ثم بعث إليه بصحيفة ختم في أسفلها وقال: اكتب في هذا ما شئت فهو لك فكتب قيس له ولشيعته الأمان على ما أصابوا من الدماء والأموال ولم يسأل مالا فأعطاه معاوية ذلك وبايعه قيس والشيعة الذين معه ثم جاء سعد بن أبي وقاص فبايعه واستقر الأمر لمعاوية واتفق الجماعة على بيعته وذلك في منتصف سنة إحدى وأربعين وسمي ذلك العام عام الجماعة من أجل ذلك ثم خرج عليه الخوارج من كل جهة من بقية أهل النهروان وغيرهم فقاتلهم واستلحمهم كما يأتي في أخبارهم على ما اشترطناه في تأليفنا من إفراد الأخبار عن الدول وأهل النحل دولة دولة وطائفة طائفة.
وهذا آخر الكلام في الخلافة الإسلامية وما كان فيها من الردة والفتوحات والحروب ثم الإتفاق والجماعة أوردتها ملخصة عيونها ومجامعها من كتاب محمد بن جرير الطبري وهو تاريخه الكبير فإنه أوثق ما رأيناه في ذلك وأبعد من المطاعن عن الشبه في كبار الأمة من خيارهم وعدولهم عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين فكثيرا ما يوجد في كلام المؤرخين أخبار فيها مطاعن وشبه في حقهم أكثرها من أهل الأهواء فلا ينبغي أن تسود بها الصحف واتبعتها بمفردات من غير كتاب الطبري بعد أن تخيرت الصحيح جهد الطاقة وإذا ذكرت شيئا في الأغلب نسبته إلى قائله وقد كان ينبغي أن تلحق دولة معاوية وأخباره بدول الخلفاء وأخبارهم فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحبة ولا ينظر في ذلك إلى حديث الخلافة بعدي ثلاثون سنة فإنه لم يصح والحق أن معاوية في عداد الخلفاء وإنما أخره المؤرخون في التأليف عنهم لأمرين: الأول أن الخلافة لعهده كانت مغالبة لأجل ما قدمناه من العصبية التي حدثت لعصره وأما قبل ذلك كانت اختيار واجتماعا فميزوا بين الحالتين فكان معاوية أول خلفاء المغالبة والعصبية الذين يعبر عنهم أهل الأهواء بالملوك ويشبهون بعضهم ببعض وحاشى الله أن يشبه معاوية بأحد ممن بعده فهو من الخلفاء الراشدين ومن كان تلوه في الدين والفضل من الخلفاء المروانية ممن تلاه في المرتبة كذلك وكذلك من بعدهم من خلفاء بني العباس ولا يقال إن الملك أدون رتبة من الخلافة فكيف يكون خليفة ملكا.
واعلم أن الملك الذي يخالف بل ينافي الخلافة هو الجبروتية المعبر عنها بالكسروية التي أنكرها عمر على معاوية حين رأى ظواهرها وأما الملك الذي هو الغلبة والقهر بالعصبية والشوكة فلا ينافي الخلافة ولا النبوة فقد كان سليمان بن داود وأبوه صلوات الله عليهما نبيين وملكين وكانا على غاية الإستقامة في دنياهما وعلى طاعة ربهما عز وجل ومعاوية لم بطلب الملك ولا أبهته للإستكثار من الدنيا وإنما ساقه أمر العصبية بطبعها لما استولى المسلمون على الدول كلها وكان هو خليفتهم فدعاهم بما يدعو الملوك إليه قومهم عندما تستفحل العصبية وتدعو لطبيعة الملك وكذلك شأن الخلفاء أهل الدين من بعده إذا دعتهم ضرورة الملك إلى إستفحال أحكامه ودواعيه والقانون في ذلك عرض أفعالهم على الصحيح من الأخبار لا بالواهي فمن جرت أفعاله عليها فهو خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في المسلمين ومن خرجت أفعاله عن ذلك فهو من ملوك الدنيا وإنما سمي خليفة بالمجاز.
الأمر الثاني في ذكر معاوية مع خلفاء بني أمية دون الخلفاء الأربعة أنهم كانوا أهل نسب واحد وعظيمهم معاوية فجعل مع أخل نسبه والخلفاء الأولون مختلفو الأنساب فجعلوا في نمط واحد وألحق بهم عثمان وإن كان من أهل هذا النسب للحوقه بهم قريبا في الفضل والله يحشرنا في زمرتهم ويرحمنا بالاقتداء بهم.